هي لحظة ولكن....
قبل
حوالي خمسين عاما كانت هناك طفلة صغيرة تدرس في المرحلة الابتدائية في الصف
السادس. للعالم قد تكون طالبة كأي طالبة في الفصل ولكن لمعلمتها كانت شيئا آخر. لم
تستطع معلمتها أن تتجاهل بريق عينيها والذي كان يشع كلما تفتق في ذهن طالبتها فكرة
جديدة أو تعلمت شيئا مثيرا. كانت هذه الطالبة تحب مادة الحساب أكثر من أي مادة
أخرى ففيها كانت ترى التحدي ففي سباق حل المسائل الحسابية ، والذي كانت تقيمه
المعلمة لكسر الجمود في الفصل ولجعل المادة ممتعة ، كانت هذه الطالبة الصغيرة تحصل
على المركز الأول دائما.
في
يوم ما جلست المعلمة تتأمل طالباتها فلقد أوشك عامهم الدراسي على الانتهاء وما هي
سوى أيام ويتقدمن لامتحان الشهادة الابتدائية وبعد اجتيازه سينتقلن للمرحلة
المتوسطة. سألت المعلمة نفسها "يا ترى ماذا سيكن بناتي في المستقبل؟" تعددت
الإجابات في ذهنها ولكن في قرارة نفسها كانت متيقنة أن طالبتها المحببة إليها تلك
الطالبة الذكية سيكون لها مستقبل مشرق.
بعد
بضعة أيام جاءت المعلمة وطلبت من جميع الطالبات أن يذهبن للإدارة لملئ استمارات
التقدم لامتحان الشهادة الابتدائية. خرجت الطالبات جميعهن من الفصل وبقيت تلك
الطالبة الذكية. اقتربت منها المعلمة وقالت لها لماذا لم تذهبي مع زميلاتك لملئ
استمارتك؟ أرخت تلك الطالبة رأسها منكسرة وقالت والداي يقلن أن الفتاة يكفيها أن
تتعلم للمرحلة الابتدائية فلا حاجة لي لدخول الاختبار لأني لن أكمل تعليمي. صدمت
المعلمة بهذا الخبر فهذه الطالبة تتوقع لها مستقبل عظيم فكيف تذهب هذه الموهبة
هدرا. فكرت المعلمة قليلا وقالت للفتاة هل منزلكم بعيد عن المدرسة؟ أجابت الطالبة
لا. قالت لها المعلمة اذهبي إلى المنزل واحضري والدتك معك سريعا. خرجت الفتاة تجري
للمنزل وقالت لوالدتها أن المعلمة تريدها لأمر ضروري. حضرت الوالدة وأخذت المعلمة
تحدثها وتقنعها بأهمية أن تكمل ابنتها تعليمها وكيف أن ابنتها طالبة متميزة ويجب
أن لا تحرم من هذه الفرصة. اقتنعت الأم بذلك وقالت لها ولكن يجب أن يوافق والدها
فهو صاحب الأمر. التفتت المعلمة للفتاة وقالت لها هل تعرفي أن تصلي لمكان عمل والدك؟
أجابت الفتاة نعم. قالت لها اذهبي سريعا واحضريه. خرجت الفتاة تجري نحو مقر عمل
والدها تتضارب في عقلها الصغير صور عن مستقبلها. هل يا ترى ستكون العام القادم مع
زميلاتها في المدرسة المتوسطة؟ أم ستكون جالسة في المنزل؟ وصلت تلك الفتاة إلى
والدها فتفاجأ من منظرها فسألها هل هناك أمر جلل؟ قالت لا ولكن معلمتي تريد التحدث
معك وطلبت مني إحضارك سريعا. استأذن الوالد من عمله وأخذ دراجته الهوائية واجلس
ابنته أمامه وبدأ بالتحرك نحو المدرسة. عندما وصل وجد زوجته والمعلمة بانتظاره
فأخذت المعلمة تقنعه بأن لا يجعل هذه الفرصة تضيع من ابنته وكيف أن ابنته تحمل
معها موهبة كبيرة يجب أن تستغل وأن لا تحرم من تلقي مزيدا من العلم والذي تتعطش
هذه الفتاة للاستزادة منه. تمكنت تلك المعلمة من إقناع الوالد كما أقنعت الوالدة
من قبل. قال الوالد للمعلمة: "ماذا علينا أن نفعل الآن؟" قالت المعلمة:
"هناك استمارة يجب أن تملأها الطالبة ويجب أن تحضر صورة شخصية لها ولكن يجب
أن يتم هذا بأقصى سرعة لأن ساعي بريد وزارة التعليم سيأتي بعد قليل لأخذ الاستمارات
وإذا لم تقدم الاستمارة قبل مغادرته فلن تتمكن الطالبة من دخول الاختبار".
بدأ القلق يسيطر على الجميع فمتى سيتم عمل ذلك كله. قالت المعلمة للوالد سوف أعبئ
الاستمارة للطالبة نيابة عنها وأنت خذ ابنتك للتصوير سريعا وسأحاول مماطلة الموضوع
لحين عودتكم.
بدأت
المعلمة بملأ الاستمارة بينما أخذ الوالد ابنته مسرعا على دراجته باتجاه أستوديو
التصوير. أُخذت الصورة سريعا وقال المصور لهم يجب أن ينتظروا حتى تجف الصورة ولكن
لم يكن هناك وقت يمكن إضاعته. أخذت الفتاة الصورة ووضعتها على راحة كفيها الصغيرين
وجلست أمام والدها على دراجته وحتى لا تقع لفّ والدها ذراعه حول وسطها لأن كفيها
متعلقة بالصورة. كانت طوال الطريق تنفخ عليها لتجف ويعاونها في ذلك الريح نتيجة
لسرعة قيادة والدها. وما أن وصولوا إلى المدرسة حتى وجدوا المعلمة تنتظرهم عند باب
المدرسة مع ساعي بريد وزارة التعليم المتذمر والذي ورائه الكثير من الأعمال وملّ
من الانتظار. أخذت المعلمة الصورة سريعا من الطالبة وألصقتها بالاستمارة وسلمتها
لساعي البريد والذي تنفس الصعداء لأن فرجه قد أتى. ركب ساعي البريد دراجته ورحل.
التفتت
المعلمة للفتاة الصغيرة وابتسمت لها وقالت: "اذهبي الآن واستعدي للامتحان
فيجب أن تحصلي على درجات عالية". لم تتسع الدنيا لفرحة هذه الفتاة في تلك
اللحظة والذي أخذها والدها على دراجته لتوصيلها إلى المنزل لتبدأ بالمذاكرة.
تلك
الفتاة أنهت المرحلة المتوسطة والثانوية والجامعة والماجستير والدكتوراة بتوفيق من
الله سبحانه وتعالى وكرمه وهي الآن معلمة قديرة زرعت حب العلم مع علو الأخلاق في طالباتها.
هذه
القصة واقعية..قصة معلمتي الحبيبة قصتها عليّ عندما جلسنا أنا وهي يوما ما نتحدث
عن كيف يمكن للحظة أن تغير مجرى حياة إنسان.
تخيل
لو اكتفت المعلمة فقط بإعطاء الدروس لطالباتها متجاهلة أي شيء آخر؟
تخيل
لو لم تكترث هذه المعلمة بمصير تلك الفتاة؟
تخيل
كيف لحظة ، من قلب محب يعرف رسالته وهدفه في الحياة ويريد أن يحدث فرقا ، غيرت
مجرى حياة إنسان!!
يا
ترى هل كنت يوما ما سببا في تغير مجرى حياة إنسان للأفضل؟ أم نتيجة عدم اهتمامك
غيرت حياته للأسوأ؟
يا
ترى هل سيذكرك طالبك يوما ما ويحكي لطلبته كيف أنك يوما ما غيرت مجرى حياته فذكرك بدعوة
في ظهر الغيب ترى أثرها في آخرتك..
ربما
هناك من ينتظر منك لحظة تقف فيها لتسانده..
ربما
هناك من ينتظر منك لحظة تلقي عليه كلمة تدفعه للأمام..
ربما
كان هناك من ينتظر لحظة تبتسم فيها له فتزرع الأمل في قلبه..
هي
لحظة ولكن هل ستفطن لها؟!
ربما....
No comments:
Post a Comment